dimanche 20 janvier 2019

سيكولوجية السلطة و التسلط التسلط بين دافع التملك المرضي وهوس الاكتمال و القوة

من أخطر الأمراض التي يمكن لتخصص علم الاجتماع المرضي أن يهتم بها كثيرا في مجتمعنا الراهن هو :
مرض السلطة أو ما يسميه علم النفس المرضي : الهوس بالسلطة وينتج عليه اضطراب البارانويا،ان حب السلطة ينتج عن رغبة دفينة في تعويض النقص أو الفشل ما يسمى في التحليل النفسي بميكانيزم التعويض عن الفشل " mécanisme de la décompensation و يتعزز هذا الشعور حينما يتسلط الخوف من تكرار تجربة الفشل و قد يتحول الى رهاب اجتماعي بأصول و دوافع نفسية وعاطفية ، كما أنه يتطور أكثر حسب البيئة التي تتناسب معه ، خصوصا حينما يتواجد في بيئة ملوثة فكريا      و متفككة أخلاقيا و قيميا ، وهنا تصبح تجربة القهر من أصعب التجارب وأكثرها دافعية لتعزيز السلوكيات العدوانية التي تقوي الشعور بالدونية لتتطور الى ميكانيزمات دفاعية تقوم بعمليات التحويل اللاشعوري من رغبة دونية الى رغبة في التملك كسلطة للذات على ذاتها وتفرض على نفسها صراعا قويا يتجلى في القرارات الانفعالية و الصدمات المتكررة ، ثم من جهة أخرى في سلوكيات عنيفة مع المحيط ، خصوصا حينما يتعلق الأمر بأشخاص يتموقعون سياسيا و يملكون سلطة نافدة ،  و قد تظهر أيضا في خلال السلطة الأبوية في المجتمعات الممتدة ، أو السلطة القهرية في المجتمعات المتخلفة ،  ولعل تطور الرغبة في التملك أو إسقاط مشاعر الألم التي تعيشها الذات المتسلطة هي نفسها التي تعيش أزمات خوف و رعب مستمرة دون أن تدرك ماهية الخوف وطبيعته أو تجد له أي تفسير منطقي ، فيصبح خوفا مفتوحا بلا عنوان ، تتطور معه مشاعر الهوس بالخطر المحيط بالشخص المتسلط ، فيظهر له الجميع كأعداء يتربصون به للنيل منه واقتسام سلطته ، ومن سماته أيضا الشك المفتوح و سوء الظن بالجميع و قبل ذلك نظرة قاتمة سوداء تجاه نفسه ، وما يمكن أن نؤكده في هذه الشخصية هو صعوبة التحاور مع صاحبها و استحالة إقناعه ، فهو دائما على صواب    و آراء الاخرين قد تهوي به الى القاع أو هي تجسيد لمؤامرة تحاك ضده لتدمير قوته وسلطته ،     و يبقى إحساس السلطة في هذه الحالة هو المحور و البناء الأساس في شخصية المتسلط لأنه إحساس  و انفعال و عاطفة تتكون كلها في مصدر قوة  و بطش بالآخرين.
ان دافعنا في كتابة هذه الأسطر ليس هو اجترار ما كتبه الإكلينيكيون سابقا عن الأمراض النفسية أو استعراض بعض المفاهيم المرضية ، وإنما ما أصبحنا نعايشه اليوم أكثر من أية فترة مضت في التاريخ ،و طالما قرأنا وسمعنا عن شخصيات سادية و قهرية و متسلطة  و مضطهدة ..... حكمت في القرون الماضية  وبطشت بالأبرياء فقط لتخلد اسمها في التاريخ ، لكن اليوم أصبحنا نعيش مع شخصيات أكثر خطورة من سابقاتها مع أسماء لا تخلد اسمها فقط و انما حتى قهرها و تسلطها حيث أصبحت هناك طرق إضافية لصناعة القهر و التسلط منها : الاقتصاد و السياسة والدين و المال        و الفن ....إننا نعيش اليوم أنواع جديدة من التسلط   و القهر،و هما مصطلحين متلازمين ، و ان حديثنا عن التسلط الاقتصادي يحيلنا الى ممارسات بعض الدول المتسلطة مثل اميريكا ، و بعض الشخصيات التي تشكل نموذجا لموضوعنا الآن مثل ترامب و ملك السعودية بن سلمان ... إضافة الى التسلط الديني ، الذي يعد من أخطر أنواع التسلط لأنه يكرس القهر الديني و الاستبداد الذي يمنع أي نقاش أو حوار مثال السعودية و إيران والمغرب ...و حينما نتحدث عن التسلط الديني فهذا يرجع الى الثقافة الدينية و ليس الى الدين كعقيدة بمعنى الى فهم و تمثل الدين عند أهل السلطة والمال و النفوذ فتتحول السلطة السياسية الى سلطة دينية لفرض أنمط التبعية و التحكم حسب منطق الحلال  و الحرام .وطاعة ولي الأمر حتى وان طغى أو ارتكب  معصية ، ان هذه الطاعة العمياء تجعل من الحاكم شخصية مقدسة هلامية ، و تعزز فيه الشعور بالربوبية في الأرض الى أن تتحول هذه المشاعر الى مشاعر اكتمال وقوة و انتصاب بالمعنى الغريزي و الذكوري.
يمكن الحديث أيضا عن سلطة السياسة و الرغبة في التحكم و الحكم ، من أجل تعويض مشاعر الضعف في الشخصية ، حيث يتوارى السياسيون خلف القيم المجتمعية و الدينية بهدف الوصول الى الحكم أو الارتقاء لهرم السلطة ، فتنقلب معالم وسمات الشخصية بمجرد تحقيق الهدف ، فتتحول كل المشاعر الداخلية للشخصية المتسلطة هنا من مشاعر تحكم و تعويض الى مشاعر تسلط و قهر         و استعباد للضعفاء ، أو تصفية حسابات عن طريق موقع القوة والحكم ، و هذه الشخصيات تظهر كثيرا في الحكومات العربية خصوصا التي عرفت تغييرات سياسية و ثورات و حركات احتجاجية     و خصوصا مع نموذج "الإسلاميين" الذي ن وصلوا لمراكز القرار في بعض الدول العربية ومنها المغرب ، تونس و ليبيا .....
ان الحديث عن تسلط الأشخاص في السياسة و المال و الحكم و الدين .... هو أمر محسوم و له دوافعه و أسبابه الواضحة أحيانا و الكامنة أيضا ، لكن أن نتحدث عن التسلط في المعرفة هو أمر يثير الاستغراب و السخرية أيضا ، فكثيرا ما بقيت أبواب الجامعات موصدة كقلاع  و حصون منيعة ، دون أن يتم التسلح بالجرأة الكافية لمحاولة رمي سهم النبش بنبل النقد و التقصي ، لما يقع داخل هذه القلاع ، و ان الشخصيات المرضية التي تتخذ لها من التسلط  و الاستبداد و التحكم أسلحة فتاكة ضد كل من يتجرأ على توجيه اللوم أو النقد أو رفض الانبطاح لشهوات الجسد ، و بما أن المتسلط هو دائم الشك وأيضا هو اله المعرفة و لا يعترف بوجود معارف أخرى غير التي يملكها ، فان كل من يقف في وجهه أو يهدد موقعه هو في مرمى استبداده و ظلمه و جبروته تحت رحمة السلطة المعرفية وسلطة القلم الأحمر ، وهنا نشير الى الحالات الكثيرة التي افتضح أمرها في "الجنس مقابل النقط"....والتي  لم يفتضح أمرها بعد ، فجميعها تبقى حالات تعكس اللاسواء في الكثير من الشخصيات التي تدعي العلم والمعرفة و البناء الثقافي و الحضاري للأمة المريضة أصلا.
ان الحديث عن التسلط و الاستبداد ، يدفنا بالضرورة الى استحضار قاموس وحقل مفاهيمي غني مرتبط بالقهر و الظلم كما فسره عالم النفس " مصطفى حجازي " في كتابه " سيكولوجية الإنسان المقهور " ،الإنسان المقهور قد يتحول الى شخصية قاهرة متسلطة و مستبدة ، و أمر بديهي أن يفجر و يحول قهره السابق الى سلوكيات وانفعالات عنيفة مثل الأب الذي يعيش قهرا في عمله من رب العمل ، أو الأم التي تمارس عملا يدويا في المعامل .... و قد يصبح الأب صاحب سلطة و تسلط       و ينعكس الأمر على الأبناء الذين بدورهم قد يطورن ويعززون سمات القهر و التسلط داخليا الى أن تظهر في مراحل المراهقة  في سلوكيات تكسير وعراك وإدمان وانحراف و اعتداء على أساتذتهم .... و قد تكون الأم أيضا منبتا لهذا القهر و التسلط فيصبح الأمر معمما على الزوج و الأبناء و أحيانا تظهر حتى في حالات الطلاق حيث تتعزز مشاعر القهر عند المرأة المطلقة فتنمو فيها الرغبة في التملك بشكل أكبر لتتحول الى مشاعر مستبدة بنفسها و بالآخرين ، لأن المعايير النفسية والعاطفية والاجتماعية عندها تتعرض لرجة قوية بعد تجربة الانفصال التي تعزز قلق الانفصال ومشاعر الاحباط و لابد من تحرك ميكانيزمات التعويض و التحويل و الدفاع ... وهنا تصبح الرغبة في التملك من أساسيات الكينونة فتتحول الى علاقة انعكاسية شرطية ، قد تضاعف مخاطر تحول الشخصية الى مرضية وهوسية بالذات و التضخم ، لهذا يصعب تعميم أو نمذجة اضطراب على كل حالة ربما مرت بنفس المراحل ، و يقتضي منا الأمر دراسة الحالة بشكل منفرد و فارقي دون استحضار مقومات اضطراب معين ، إذ يبقى التشخيص الفارقي و المصدري في الجدول الاكلينيكي مهمين جدا ، على الأقل في مثل هذه الحالات الصعبة التي تحتاج فعلا لتحليل و تشخيص مصدري لأسباب الاضطراب وتطور المرض النفسي.ونشير الى أن وجود علم الاجتماع المرضي مهم و أساسي هنا بحكم أنه لا يقصي الثقافة في شموليتها أو خصوصيتها و كذا مقومات العيش من منطقة لأخرى و من شخص لأخر في بيئيتين مختلفتين ، فالتسلط يمر عبر مرحلتين وهما : الاستبداد الداخلي بالنفس ثم الاستبداد الخارجي  للآخرين بشكل واضح و ظاهر، وكلا الوضعيتين تعكسان حجم معاناة الفرد حينما تتحول مشاعره و انفعالاته الى مشاعر تسلط و قهر و استبداد ، فيكون الاحتراق النفسي الداخلي أصعب مرحلة يعيشها الفرد في هذه الحالة.قد نتفق و قد نختلف في قراءاتنا حول أسباب ودوافع الانتحار      و القتل و التنكيل و الاعتداء ...... و الطلاق و غيرها من الأمراض و المشاكل الاجتماعية ، لكننا قد نتفق حول مصدرية التسلط و القهر دون أن نحدد مجال تطورهما، فالقهر هو صورة مستبدة سلبية بالذات لذاتها وهو التسلط هنا هو انعكاس للمرآة المنكسرة التي لا تظهر حقيقة صورة الذات، لهذا فان تمثل تلك الصورة المشوهة ، قد ينتج الكثير من القراءات المشوهة أيضا ، لهذا يمكننا أن نشير بأصابع الاتهام للتسلط و القهر كسببين في حالات الانتحار و الجرائم البشعة التي نسمعها يوميا إما بالتنكيل بالجثث أو تقطيع الرؤوس أو غيرها ، فكل الحالات في التسلط تشير الى ترك بصمات الألم في نفوس الضحايا لهذا فان أول ضحية هو المتسلط نفسه و مثال ذلك " جريمة مدينة المحمدية يوم 19 أكتوبر حينما قام شخص بقطع رأس متشرد و الطواف به ، ان هذا الشخص ليس مجرما في الحالة الطبيعية للسياق و انما هو الضحية الأولى للتسلط و القهر الاجتماعي و السياسي و الأخلاقي   و التعليمي و الديني في المغرب ،و نتج عن ذلك سقوط ضحية أخرى تعيش نفس وضعية التسلط       و القهر من طرف المقاربة الاجتماعية التنموية  الفاشلة على اعتبار أنه متشرد بدون مأوى أو ظروف عيش ، و إذا اعتبرنا أن القاتل هو حلقة الوصل في الجريمة و أن عناصر هذه الجريمة تتضمن 03 عناصر رئيسية وهي : القاتل ثم الضحية و أداة الجريمة ، سنكون قد أخطأنا التشخيص والقراءة السيكولوجية الصحيحة للحادثة مرة أخرى ، وجردناها من سياقها العلمي ،و اختزلناها في حادثة بمسطرة جنائية فقط ،وهذا لن يفيدنا في شيء أو على الأقل لن يساعدنا مستقبلا في فهم أسباب قيام البعض بقتل آخرين بدم بارد و بأبشع الصور ،و ان تحليل علم نفس الجريمة هنا لا يستبعد السياق أبدا في مثل هذه الجرائم بل يفترض أولا أن الضحايا هم كل العناصر الموجودة في الحادثة  و بعدها موقعة كل عنصر حسب الدافع ، و محاولة فهم سياق الجريمة ، على أساس أن القيام بفعل القتل هو آخر مرحلة من سيناريو معد مسبقا أو من حرب نفسية داخلية استمرت لمدة طويلة دون أن تفهم الجهات المسؤولة أن ترك المضطربين نفسيا و عقليا في الشوارع هو جريمة أخلاقية وقانونية أكبر بكثير من الفعل الذي قام به الجاني لأن النظر للفعل باختزالية هو من صميم انعدام ثقافة تحمل المسؤولية ، وان العكس في ذلك حينما ينظر للسياق الكامل لوقوع الحدث تظهر المسؤولية التقصيرية للسلطة المسؤولة سواء من سلطات محلية أو قضائية أو صحية ، لهذا فالمسؤول الأول عن هذه الحوادث هو السلطة المحلية بتواز مع وزارة الصحة وهنا يكون الوضع معمما على كل الحوادث من نفس النوع وليس على حادثة قتل واحدة فقط .  
ذ هشام العفو
استشاري نفسي
_ مدير المرصد الوطني للدراسات النفسية والاجتماعية _